إن محمد عبد الله ورسوله
أما محمد الرسول صلى الله عليه وسلم فلن يفكر أحد أن يكون مثله أو قريبا منه ، في إشراق روحه ، واتصاله بالملأ الأعلى، يتلقى الوحي ، ويتنزل عليه الهدى آيات بينات ! لن يصل أحد إلى هذا ولا إلى قريب منه ، لأن الله ختم بنبوته النبوات ، وبشريعته الشرائع
وأما محمد الإنسان ، فهو هو الذي يحرص كل مسلم على أن يكون ظله في الأرض ، يتخلق بخلقه ، ويهتدي بهديه ، ويأتي به في صبره وجهاده ، وزهده وعبادته ، وتضحيته وإيثاره ، ومأكله و ملبسه ، وما أعتقد أن الله أكرم رسوله الإنسان بمدح أعلى من هذا المديح
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم
تعال بنا لنتخطى أسوار الزمن حتى نصل إلى عتبة محمد الرسول الإنسان فنرى روح الحياة السارية المشرقة في مجتمع فاض بالبطولات و المروءات ، حتى يكاد تاريخه يلتحق بالأساطير، لولا أنه حق لا مرية فيه ، وصدق لا كذب معه .
أوصافه الخلقية
قالوا في أوصافه عليه الصلاة والسلام ، أخذنا هذه الأوصاف من كتب السنة الصحيحة وكتب الشمائل النبوية وخاصة شمائل الإمام أبي عيسى الترمذي رحمه الله
أنه كان صلى الله عليه وسلم
أنه كان صلى الله عليه وسلم : ظاهر الوضاءة ، متبلج الوجه ، له نور يعلوه ، إذا زال زال تقلعا ، يخطو تكفيا ويمشي هونا ، ذريع المشية كأنما ينحط من صبب ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يمشي وراء أصحابه ، ويبدر من لقي بالسلام ، دائم الأحزان ، متواصل الفكرة ، ليست له راحة ، طويل السكت ، لا يتكلم في غير حاجة ، يفتتح الكلام ويختمه باسم الله ، وإذا تكلم أعاد الكلام ثلاثا ليفهم عنه ، كلامه فصل لا فضول ولا تقصير، أوتي جوامع الكلم ، واختصرت له الكلمة اختصارا ، ليس بالجافي ولا المهين ، يعظم النعمة و إن دقت ، لا يذم منها شيئا ، غير أنه لم يكن يذم ذواقا " طعاما " قط ولا يمدحه ، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها ، فإذا تعدي الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له ، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها ، وإذا غضب أعرض وأشاح ، وإذا فرح غض طرفه ، جل ضحكه التبسم ، إذا نطق فعليه البهاء ، و إذا صمت فعليه الوقار، أزين الناس منظرا وأحسنهم وجها ، و أجودهم ، و أسخاهم نفسا ، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، وما سئل عن شيء قط فقال : لا ، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما
معاني بعض الكلمات
متبلج الوجه : مشرقه . التقلع : رفع الرجل بقوة . يخطو تكفيا: يميل إلى سنن المشي وقصده . الهون : الوقار. ذريع المشية : واسع الخطو. الصبب : العلو. يبدر: يبدأ.
تقول عائشة رضي الله عنها في مجامع خلقه : كان خلقه القرآن
ويقول علي رضي الله عنه في وصف شخصيته : من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه معرفة أحبه
معيشته في نفسه
كان لا يتكلف في لباس ولا طعام ، يلبس ما يتيسر، وأكثر لبسه المعتاد من لباس الناس ، وكان يلبس جيد الثياب إذا اقتضى الأمر لمقابلة وفود، أو لمناسبة عيد، وكان يأكل ما يجده ، فإن وجد اللحم والحلوى أكل ، وإن لم يجد إلا الخبز والزيت أو الخل أكل ، وإن لم يجد ما يأكله بات طاويا، وربما شد على بطنه الحجر من شدة الجوع .
وكان ينام على فراش من جلد حشوه ليف ، ويجلس على الحصير وينام عليها كثيرا.
معيشته في بيته
كان حلو المعاشرة لزوجاته ، كثير المسامرة لهن ، متحملا لأخلاقهن ، وخاصة غيرتهن ، وكان يقول : "خيركم خيركم لأهله " رواه الترمذي وابن ماجه
وكان نساؤه يحتملن منه شدة الحال وخشونة العيش ، وكان يسره ذلك منهن ، فلما فكرن يوما أن يطلبن منه التوسعة والزينة والمطعم ، شق ذلك عليه وهجرهن شهرا لا يكلمهن ، ثم نزل قوله تعالى :
يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً(28)وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا
فلما نزلت هاتان الآيتان خير نساءه وبدأ بعائشة وقال لها : " ما أحب أن تختاري حتى تستأمري أبويك " ، ثم تلا عليها الآيات ، وفيها التخيير بين أن تبقى عنده على شظف العيش وخشونة الحياة، وبين أن يفارقها ويمتعها متاعا جميلا ، فكان جوابها في الفور: أفيك أستامر أبوي ؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، وكذلك فعل بكل واحدة من نسائه على انفراد فكان جوابها كجواب عائشة، وهي لا تعلم بما أجابت به غيرها " تفسير الطبري : 99/21
وظل هكذا شأنه مع نسائه من التقشف وخشونة العيش حتى توفاه الله . تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : ما شبع آل محمد يومين من خبز البر، ولقد كنا نمكث الشهر والشهرين لا يوقد في بيتنا نار، وما كان طعامنا إلا التمر والماء، ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتنا شيء يأكله ذو كبد ، إلا كسرة خبز من شعير على رف لي " رواه البخاري ومسلم وغيرهما ، وقال أنس : رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعا له على شعير يأخذه لطعام أهله " رواه البخاري
عمله في بيته
سئلت عائشة رضي الله عنها : ماذا كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت ؟ فقالت : كان بشراً من البشر، يخصف نعله ، ويرقع ثوبه ، ويحلب شاته ، ويعمل ما يعمل الرجل في بيته ، فإذا حضرت الصلاة خرج " رواه البخاري في الأدب المفرد
معاملته لأصحابه
يقول أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمت النبي عشر سنين فما قال لي أف قط ، ولا قال لشيء صنعته : لم صنعته ؟ ولا لشيء تركته : لم تركته ؟ وكان لا يظلم أحداً أجره " رواه البخاري
وقالت عائشة رضي الله عنها : ما ضرب شيئا قط ، ولا ضرب امرأة ولا خادما " الزرقاني شرح المواهب
وقال أبو هريرة رضي الله عنه : دخلت السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشتري سراويل ، فوثب البائع إلى يد النبي !نه ليقبلها ، فجذب يده ، ومنعه قائلا له : "هذا تفعله الأعاجم بملوكها ، ولست بملك ، إنما أنا رجل منكم " ثم أخذ السراويل فأردت أن أحملها فأبى وقال : " صاحب الشيء أحق بأن يحمله "
وكان عليه الصلاة والسلام مرة في سفر مع جماعة فلما حان موعد الطعام ، عزموا على إعداد شاة يأكلونها . فقال أحدهم : علي ذبحها . وقال الآخر : علي سلخها . وقال الثالث : علي طبخها . فقال النبي عليه السلام : "وعلي جمع الحطب . فقالوا : يا رسول الله ، نحن نكفيك العمل . فقال : "علمت أنكم تكفونني ، ولكنني أكره أن أتميز عليكم ، وإن الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه مميزا بين أصحابه " الزرقاني شرح المواهب
جاء رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب فقال لغلام له قصاب : اجعل لي طعاماً يكفي خمسة ، فإني أريد أن أدعو النبي لمجز خامس خمسة ، فإني قد عرفت في وجهه الجوع ، فدعاهم ، فجاء معهم رجل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الدعوة : "إن هذا قد تبعنا، فإن شئت أن تأذن له فأذن له ، وإن شئت أن يرجع رجع ، فقال الأنصاري : لا بل أذنت له " رواه البخاري
وكان من عادته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه أنه يقبل معذرة المسيء ولا يجابه أحدا بما يكره ، وإذا بلغه عن أحد شيء يكرهه نته على خطئه بقوله : "ما بال أقوام يفعلون كذا " دون أن يذكر اسمه
لم يكن يحب أن يقوم له أحد، وكان يجلس حيث انتهى به المجلس ، وينزل إلى أسواقهم فيرشدهم إلى الأمانة وينهاهم عن الخداع والغش في المعاملات
وكان من عادته أن يبش إلى كل من يجلس إليه حتى يظن أنه أحب أصحابه إلى قلبه
ويقرب إليه ذوي السبق في الإسلام والجهاد ولو كانوا غمار الناس
ويستشير أولي الرأي فيما هو من شؤون السياسة أو الحرب أو أمور الدنيا ، وينزل عند آرائهم ولو خالفت رأيه كما حصل في معركة بدر غيرها
خشيته وعبادته
كان صلى الله عليه وسلم كثير المراقبة لله عز وجل ، واسع الخشية منه ، عظيم العبادة له ، في الليل متهجداً راكعا ساجدا حتى تتورم قدماه ، وتفيض عيناه بالدمع من خشية الله حتى يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء ، فتقول له في ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها : أتفعل ذلك يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيجيبها : " أفلا أكون عبدا شكورا "
وكان كثير اللهج باسم الله عز وجل ، فإذا أكل أو شرب أو قام أو قعد أو ابتدأ شيئا ، أو فعل أمراً بدأ ذلك كله بسم الله الرحمن الرحيم ، وإذا اختتمه اختتمه بالحمد لله رب العالمين
وكان لا يفتر عن الدعاء لربه . ومن دعائه عليه الصلاة والسلام : " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، وعمل لا يرفع ، ودعاء لا يسمع " رواه أحمد والحاكم وغيرهما
" اللهم إني أسألك من الخير كله ، ما علمت منه وما لم أعلم ، وأعوذ بك من الشر كله ، ما علمت منه وما لم أعلم " رواه أبو داود والطبراني
" اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة " رواه أحمد والحاكم وغيرهما
"اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك " رواه مسلم وأبو داود و الترمذي
" اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء " رواه الترمذي و الطبراني والحاكم
ولما كذبته ثقيف في الطائف ، وآذته وأغرت به سفهاءها يرجمونه بالأحجار حتى دميت قدماه ، اتجه إلى الله خالقه بهذا الدعاء الرهيب : " اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين إلى من تكلني ، إلى عدو يتجهمني ، أم إلى قريب ملكته أمري ؟ إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السماوات والأرض ، وأشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل علي غضبك ، أو تنزل علي سخطك ، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك " رواه الطبراني
رياضته ونظافته
ومع هذه العبادة ، وذلك التضرع والبكاء ، كان طيب النفس متفتحا للحياة، يتسابق مع عائشة، و يتصارع مع ركانة، ويشهد لعب الحبشة في أعيادهم ، ويعنى بلباسه ونظافته ، فهو كثير الاغتسال ، كثير الإدهان بالطيب ، إذا مر من طريق يعرف الناس أنه قد مر به لما يجدون من طيبه ، و إذا صافحه المصافح يظل يجد أثر الطيب في يده ثلاثة أيام ، وكان لا يفارقه في حضره وسفره مشطه ومقصه ومرآته ومكحلته . .
وبهذا يفترق الأمر كثيرا عن معنى الدين والتعبد في الديانات الأخرى ، إذ يعتبرون من مآثر القديس عندهم أنه لم يقرب جسمه الماء طيلة حياته ! .
كما يفترق عن عادة الغربيين في هذه الأزمان ، إذ رأيناهم يعيبون على الرجل أن يدهن بالطيب فتفوح رائحته الطيبة منه ، ولله في خلقه شؤون